السبت، ٢٠ يناير ٢٠٠٧

ص 1 طه حسين

ذكريات
محمود البدوى وطه حسين


اعداد : على عبد اللطيف
و ليلى محمود البدوى

جاء محمود البدوى من الصعيد فى العشرينات من القرن العشرين بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية ، جاء إلى القاهرة ، والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية ..

ويقول :
" والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر شوقى .. ونكت المازنى وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب .. مصطفى صادق الرافعى لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر هؤلاء الأعلام (1) .

وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ، ويستعمل لفظة غليظ فى اسراف .. وتبسم الشيخ شتا .. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن " عذاب غليظ " فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ .. (2) . وأنه كثير المترادفات والجمل الاعتراضية لأنه كان يملى والذى يملى غير الذى يكتب بيده (3) .

***

نجح محمود البدوى فى امتحان البكالوريا والتحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها

ويقول :
" وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها ، سألنا الأستاذ ، ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..

سألنا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة " بوفون " الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب " .

سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف " المنفلوطى " وعباءة الزيات " فقلنا المنفلوطى والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ـ وطه حسين ..؟

فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على اسلوبه ، وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى .. والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. هم بلغاء العصر فى نظرنا وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب.

ويقول البدوى فى حوار معه نشر بصيفة الجمهورية فى 25121975 " تأثرت بالرائد طــه حســين .. أقـدس فكره " .

***

ولما صدرت مجلة الرسالة ، وانتقل البدوى من السويس للعمل بمقر وزارة المالية فى القاهرة .. يقول :
" كان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما .. الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا نكتب المقال والقصة والشعر (5) والزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و " طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة (6) .

***

وفى 25 مارس 1953 تأسس نادى القصة فى مصر وتولى رئاسته الدكتور طه حسين ، والأستاذ الأديب يوسف السباعى سكرتير النادى وكان مقر النادى فى ذلك الوقـت فى ميـدان التحرير .

ويقول البدوى :
" كان استاذنا توفيق الحكيم يحضر بعصاه وغطاء رأسه وعلى وجهه الصمت والتأمل ، كما كان يحضر فريد أبو حديد .. ويحيى حقى .. واحسان عبد القدوس صاحب فكرة النادى ، وهو الذى عندما راودته الفكرة عرضها على يوسف السباعى فنفذها هذا سريعا بطريقته التى لايشوبها التردد " .

" حملت معى إلى نادى القصة ذات مساء مجموعة قصص صدرت لى حديثا " حدث ذات ليلة " (7) وكان فى النادى طه حسين .. وتوفيق الحكيم .. ويوسف السباعى .. وعبد الحميد السحار .. وغراب .. فأهديت نسخة إلى طه حسين ومثلها إلى توفيق الحكيم .. وتركت الثلاث نسخ الباقية على مكتب يوسف السباعى .

وفى الأسبوع التالى .. جاء الدكتور طه إلى النادى وسلمت عليه مع المسلمين ، وبعد أن استراح قليلا أخذ يتحدث عن قصص المجموعة .. ويلخص كل قصة فى ايجاز فيه كل اللمحات الإنسانية .. مع التركيز على لب القصة ومحورها .. وقد شكرته فى خجل شديد .. وأنا مذهول من هذه الذاكرة الفذة .. فقد كان يسرد وقائع نسيتها وأنا كاتبها .

ولما صدرت لى " مجموعة العربة الأخيرة "(8) رأى غراب (9) أن أهديها للدكتور أيضا .. فأهديتها له .. وحمل إلىّ أمين فى نفس الأسبوع كتاب " الفتنة الكبـرى " للدكتـور ردا على هديتى .

وتحدث الدكتور طه بعد ذلك بسنوات فى الإذاعة عن بعض الأدباء وكتاب القصة الجدد ولم أسمعه .. وحدثنى من سمعه أنه عندما أراد أن يذكر اسمى .. كان قد نسيه .. فقال محمود ال .. ال.. البدوى ونطق البدوى بعد ثوان من التوقف .. وكان لقائى الأول مع طه حسين فى النادى كما أسلفت .. واللقاء الأخير فى بيته عندما مرض ، ورأى المرحوم يوسف السباعى أن يجتمع مجلس إدارة النادى فى بيت الدكتور بالهرم ، وكان ذلك فى آخر أيامه رحمه الله (10) " .

وحينما حلت الذكرى السابعة على وفاة طه حسين .. يقول البدوى :
" طه حسين هو أول من فتح عيوننا على الدراسة المنهجية العميقة التى تعرف جيدا كيف تدرس بيئة الشاعر وحياته ومن اختلط ومن تأثر بهم ..

ومثل هذه الدراسة هى الدراسة الحقيقية للأديب والشاعر .

وكان كتابه " الأيام " قمة من ناحية السرد الذاتى للحياة الشخصية ، وإن كنت أفضل لو كان كتبه بضمير المتكلم المباشر ، أى بلسان الراوى ، فيذكر :
أنا فعلت ، أنا عشت ، أنا انتقلت
بدل قوله :
كان صاحبك يا ابنتى ..

لأن هذه الطريقة التى استخدمها أفقدت الكتاب ما يقرب من نصف قوته (11) " .
==============
(1) حوار مع محمود البدوى نشر فى مجلة الكواكب المصرية 26111985
(2) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ مجلة الثقافة المصرية .. العدد 93 يونية 1981
(3) حوار مع محمود البدوى فى صحيفة الرياض 7101984
(4) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ م . الثقافة المصرية .. العدد 93 يونية 1981
(5) محمود البدوى فى " ذكرياتى فى الأدب والحياة " ـ م . الثقافة المصرية .. العدد 49 أكنوبر 1977
(6) حوار مع محمود البدوى نشر فى مجلة الكواكب المصرية 26111985
(7) كتاب " حدث ذات ليلة " الطبعة الأولى 1953 دار مصر للطباعة ـ الطبعة الثانية 1965 الدار القومية للطباعة والنشر
(8) كتاب " العربة الأخيرة " الطبعة الأولى 1948 مكتبة مصر ومطبعتها ـ الطبعة الثانية 1960 الكتاب الذهبى
(9) أمين يوسف غراب عضو نادى القصة وكان شديد الاتصال بالدكتور طه حسين
(10) محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " م . الثقافة المصرية .. العدد 76 يناير 1980
(11) حوار مع محمود البدوى ـ ص . المساء المصرية 191980
=================================


ص 2 محمود تيمور

ذكريات
محمود البدوى ومحمود تيمور


يقول البدوى
" التقيت بمحمود تيمور لأول مرة فى مقهى " رجينا " بشارع عماد الدين .. وهو المكان المختار للأدباء والفنانين . وكان يجلس معه أمين حسونه وزكى طليمات .. وكنت أجلس مع صحبة من الأدباء الشبان فى زاوية من المقهى بالناحية الغربية .

ومقهى " رجينا " يقع فى موقع جميل من الشارع على يمين المتجه إلى محطة مصر .. وقبل عمارات الخديو بخطوات قليلة .. وكان بديع التنسيق نظيفا تغطى موائده المفارش وتتخلل أركانه أصص الزهور ..

وكنا لا نتخلف عنه ليلة واحدة لجماله وطراوة هوائه ، وعلى الأخص فى الصيف فهو يستقبل الهواء من بحـرى بسخـاء ونعومة .

وكانت الحركة الأدبية نشطة بل فى أوج نشاطها بما ينشر فى المجلات والصحف والكتب من فنون الأدب .

***

وذات ليلة ونحن فى مجلسنا المعتاد بالمقهى .. رأيت انسانا أنيق الملبس والمظهر يتحرك نحونا .. وقال طه عبد الباقى .. بسرور .. ينبهنا ..
ـ تيمور بك .

ووقفنا وسلم علينا جميعا .
وقال فى صوت هادىء واضح النبرات :
ـ أهنئك على كتابك .. رجل ( وكنت قد أهديته له ) .. وأخص بالذكر قصة " الأعمى " .. أعجبتنى للغاية .

وشكرته ووقفنا بجانبه وكنا ثلاثة أكثر من دقيقتين .. نتحدث فى مجال الأدب .. ثم بارحنا ورجع إلى مكانه ..

وسألت طه فى استغراب :
ـ الرجل النبيل تحرك من مكانه ليحيى شابا صغيرا .. ما أنبل هذا وأعظمه .

فقال طه معقبا :
ـ الرجل العظيم هو أكثر الناس تواضعا .. ولو رجعت لسير العظماء فى التاريخ ما وجدت هذا يخل بمقدار شعرة ..

***

وكانت فرقة فاطمة رشدى تقيم حفلات نهارية كثيرة للطلبة بتذاكر رخيصـة .. فكنـا نذهب إليهـا ونخـرج منهـا إلى المقهى مباشرة .

وبعد قليل يقبل تيمور ومعه أمين حسونه .. وكان تيمور يطلع على كل جريدة ومجلة تصدر فى مصر والشام والمهجر العربى .. وكان المهجر فى ذلك الوقت يصدر مجلات وصحفا عربية متعددة .. وجميع هذه ترسل لتيمور على عنوانه المعروف للجميع والذى كان يثبته فى آخر صفحات كتبه .

وكان تيمور يتصفح هذه المجلات وهو جالس فى مكانه من المقهى .. فإذا نهض تركها لمن يريد الاطلاع عليها من صحابه وجلسائه .. وكان أمين حسونه يتوق إلى معرفة أخبار المستشرقين وأحوالهم ودراستهم وله ولع شديد بهم .. فكان يتلهف على الاطلاع على ما فى تلك المجلات ..

وتيمور إنسان مهذب رقيق الاحساس ومجامل إلى أقصى درجات المجاملة .

وكتبه تسيل سيولة وعذوبة وقد وصف الحياة فى المجتمع المصرى بروح الفنان الملهم .. وكان محمد تيمور الأخ الأصغر قصير العـمر قليـل الإنتـاج .. أمـا هو فقد امتد به الأجل وكتب الكثير ..

ويقول عنه د . سيد حامد النساج ـ كمؤرخ أدبى متمكن قد يتخصص ـ أن أسلوب تيمور تغير بعد دخوله المجمع اللغوى 1955 كعضو عامل .. وأصبح يعنى بانتقاء الألفاظ .. وبعض هذه الألفاظ كانت نافرة وأفسدت جو القصة .

وكان تيمور يقيم مآدب فى محل الجمال بشارع عدلى .. حفلات شاى لتلاميذه ومحبيه .. وقد حضرت حفلة واحدة منها .. كما ترى فى الصورة المنشورة مع المقال ..



كما كان كثير الإهداء لكتبه .. يهدى بمجرد التعارف مع الشخص ومعرفة ميوله الأدبية ..

والكتب المهداة لا تقرأ .. ولكنه لم ينقطع عن هذه العادة التى تأصلت فى نفسه .

وندر أن كنت ألقاه وحده فى الطريق حتى وهو يتجول فى الشوارع .. يترك عربته بجوار جروبى أو الجمال .. ثم يخرج ليتجول .. وكنت أجد فى صحبته دائما .. أمين حسونة .. ثم فوزى سليمان .. وأخيرا رستم كيلانى .. وأصبح رستم كيلانى من أشد المعجبين به ومن أقرب تلاميذه ومريديه ..

كما رافقه فوزى سليمان مدة طويلة فى جولاته الأدبية وسهراته فى المسارح .

وكان تيمور الإنسان المؤدب المهذب الواسع الشهرة يجعل الكثيرين يستريحون إلى صحبته .

***

وفى دراسة عن المحمودين تيمور والبدوى ، حصل الباحث حامد مرزوق عبد الرحيم ـ فى اكتوبر من عام 2003 ـ على درجة الماجستير فى اللغة العربية قسم الأدب والنقد بتقدير ممتاز عن رسالته التى تقدم بها إلى كلية اللغة العربية " جامعة الأزهر " فرع أسيوط وعنوانها " القرية المصرية فى قصص محمود تيمور ومحمود البدوى " دراسة تحليلية نقدية وموازنة .

حاول الباحث أن يثبت خلال هذه الموازنة بين المحمودين أن هناك فرقا بين القريتين ، فقرية البدوى هى قرية الصعيد ذات الطبيعة الخشنة والحياة القاسية ، وقرية تيمور هى قرية الدلتا والتى تختلف عن قرية الصعيد .. وقد اختار الباحث المحمودين لأن البدوى يكاد يكون زميلا ورفيقا لتيمور ، على الرغم من أن البدوى بدأ الكتابة بعد تيمور بزمن يسير ، وهو وإن كان يصغره فى السن ، إلا أنه تاريخيا من نفس الجيل الذى أسس القصة القصيرة فى مصر ، ومع ذلك فقد نال " تيمور " شهرة ومكانة اجتماعية بارزة عن البدوى ، مع أن البدوى يتفوق عليه من الناحية الأدبية من وجهة نظر بعض النقاد ، ومنهم الناقد رجاء النقاش .

ورصد الباحث :
* أن القرآن الكريم كان له كبير الأثر فى نفس المحمودين البدوى وتيمور .
* وأنهما كتبا فى معظم الاتجاهات القصصية ، وهو ما يعد دليلا على موسوعيتهما .
* أن كلا منهما يجيد عدة لغات مكنته من الاطلاع على الآداب الأجنبية بلغة أصحابها .
* اشترك كل من المحمودين فى حبه للرحلة ، فقد زارا بلادا كثيرة وقصا عنها .

وفى نهاية الرسالة دعا الباحث إلى ضرورة أن يلتفت الباحثون إلى مثل هؤلاء الأدباء العظام ويعكفوا على دراسة أعمالهم ، والاهتمام بالأعمال التى تكشف عن روح القرية المصرية وتسلط الضوء على ما فيها من مشكلات اجتماعية واقتصادية ومحاولة ايجاد الحلول لها .
=================================
المراجع التى استعان بها الكاتب :
* محمود البدوى فى " ذكريات مطوية " ـ مجلة الثقافة ـ العدد 88 يناير 1981
* رسالة الماجستير المقدمة من الباحث حامد مرزوق عبد الرحيم لنيل درجة الماجستير فى الأدب والنقد والتى تقدم بها إلى جامعة الأزهر " كلية اللغة العربية بأسيوط " .
=================================

ص 3 أحمد حسن الزيات

ذكريات
محمود البدوى وأحمد حسن الزيات



قرأ محمود البدوى آلام فرتر للزيات وبعدها روفائيل خير أعمال لامرتين الأدبية ، فأحب الرجل ، وأعجب به ، لأنه لم يتعمل فى الترجمة ولم يتصنع ، فجاءت ترجمته آية الآيات الفنية ، ولم يبدأ حياته الأدبية بالهجوم ـ مستوقفا الأنظار ـ كما فعل غيره من الأدباء ، ولم يهرج لكتبه بالطريقة الأمريكية المعروفة لكثيرين ، ولم ينشر عن نفسه ثناء ولا حمدا ، ولم ينزل بفنه إلى مستوى العامة ، ولم يكتب ليرضى الجمهور ويتملق الناس ، وإنما عمل فى صمت وسكون واخلاص (1) .

وأنشأ الزيات مجلة الرسالة بعد رجوعه من العراق ، وأعد لها العدة عن فهم وبصيرة بما يجرى حوله ، فقد كان العالم العربى من مشرقه ومغربه فى حاجة ماسة إلى مثل هذه المجلة الأدبية ، فلما صدرت استقبلته استقبالا عديم النظير .

كانت توزع سبعة آلاف نسخة فى العراق وحدها ، وكان البدوى وقتها فى مدينة السويس ويقدر الرجل ويجله كأستاذ لجيل ، تحولوا إليه يتغنوا بأسلوبه وبلاغته .

ولما وقع فى يد البدوى العدد الأول من المجلة فرح بها وكتب له يهنىء ويمجد عمله ولم يذكر فى الرسالة اسمه .

ويقول البدوى :
" ... وظل الرجل كريم الصفات لايعرف صاحب هذه الرسالة إلى آخر أيامه ، ولكنها أبهجته حقا ، وشرحت قلبه ، لأنها صادرة من مجهول أكثر من أى شىء آخر . فعلق عليها فى العدد الثالث من المجلة (2) بالعبارة التالية .... وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته ، ثم يحمل نفسه ووقته جهد الكتابة اليك صفحات فى تأييد وقدرة ، ثم لايريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه (3) " .

وكان البدوى ـ وقت صدور المجلة ـ يقرأ الأدب باللغة الإنجليزية والأدب الروسى خاصة مترجما إلى الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت .. لأنه كما يقول " الجو الروسى التشيكوفى على وجه التحديد يصور حياة الفلاح الروسى تماما كالفلاح المصرى (4) " فبدأ يترجم أعمالا للأدباء الذين كتبوا عن بشر يشابهوننا " ، وترجم قصة " الجورب الوردى " لتشيكوف ، ودفعه حبه لأستاذه الزيات أن يرسلها إليه بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت الترجمة بالعدد العشرين فى 1121933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها من القصص القصيرة لتشيكوف ومكسيم جوركى وموبسان .

وفى عـــام 1936 أخــذ البــدوى أول مجموعـة قصصـية له " رجل " وذهب إلى مجلة الرسالة لينشر عنها إعلانا صغيرا بالمجلة ..

ويقول :
" وتناول أستاذى الزيات الكتاب الصغير فى يده .. وقلبه .. فلما وقع نظره على قصة " الأعمى " سألنى عنها .. ووجد فيها شيئا جديدا .. وطلب منى أن ينشرها فى الرسالة .. ونشرها فعلا على عددين (5) وقد لمست صفات هذا الرجل الكريم ونبله .. لما حدثنى بعد ذلك عن كل المكالمات التليفونية التى تلقاها إعجابا بهذه القصة ، وشجعنى بهذا وفتح قلبى على مواصلة الطريق .. فأخذت أتابع النشر فى الرسالة (6) ولولاه ما واصلت الكتابة .. ولا كتبت حرفا .. ولأصابنى العجز والضيق فى أول الطريق .. وكانت رسالته رحمه الله رسالة الرسالات ، وقد عجزت الدولة من بعده بكل إمكانياتها أن تخرج مثلها ، فالعمل الأدبى إخلاص وتضحية ولا يزيد ولا ينقص بعدد الأشخاص الذين يتولونه (7) وكان هذا الرجل عظيما جدا ، وقد تعلمت منه أشياء كثيرة .. لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل (8)" .

" فأديب الأمس ولظروف الحياة المادية نفسها فى ذلك الوقت .. كان روحيا مخلصا للأدب .. وروحه متشربة لحبة إلى درجة التضحية (9) ولقد عاصرت الأدب الزاهر الذى كانت تسوده روح التضحية خصوصا عند مصطفى صادق الرافعى ، المازنى ، العقاد ، أحمد أمين ، الزيات (10) . أنا شخصيا وجدت الزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و" طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة .. وروح التضحية برزت واضحة فى لجنة التأليف والترجمة والنشر .. كانوا فى حارة " الهدارة " فى عابدين .. فى بناء متهالك .. يخرجون ويطبعون مجلة الثقافة متكاملة طباعة وفنا أدبيا ، ويأتيهم نظير هذا العمل أى ربح مادى يوزع عليهم .. بل كانت التضحية متضامنة .. وروح حب الأدب للأدب كان متغلغلا فى كل نفس تكتب فى هذه المجلة " .

***

ويقول البدوى "وكانت بداية اتصالى به ومعرفتى به عن قرب وعلى الأخص بعد أن انتقل من شارع حسن الأكبر إلى ميدان العتبة فوق محل الفرنوانى ، وأخذ فى اصدار مجلة الرواية بجانب الرسالة (11) . فكان يصدر المجلتين معا ويتولى وحده تصحيحها ومراجعة البروفات وكل عمل الادارة والمطبعة والاعلانات .

وزرته ذات مساء فوجدته يراجع البروفات على الفصل الأول من يوميات نائب فى الأرياف لأستاذنا توفيق الحكيم .. وكان فخورا بهذه الرواية إلى أقصى مدى ، وأشفقت على تعبه وهو يقرأ النص ويراجع حروف المطبعة معا ، فاستأذنته أن أعينه .. وجلست أمامه .. وأخذت أقرأ النص بصوت عال ـ وأخاف الخطأ ـ وهو يراجع على البروفة المطبوعة ويصحح بدقة متناهية وصبر عجيب .

ومر الوقت بنا حتى ولى نصف الليل ، وما شاهدته فى أثناء هذه الجلسة الطويلة دخن سيجارة ولا شرب فنجانا من القهوة .

وكان من اصدقائه الذين أراهم فى المجلة على فترات متقاربة الدكتور توفيق يونس والشيخ زناتى والأستاذ محمود الخفيف .

وكان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما ، الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا نكتب المقال والقصة والشعر وانضم إلينا رابع الأستاذ .. ابراهيم طلعت الشاعر الثائر .. وكان قد أخذ ينشر قصائده .. وشاهدت بعد ذلك فى المجلة من جاء ليعاون أستاذنا الزيات فى عمله الذى اتسع ، وكان منهم الصديق الكريم الأستاذ عباس خضر (12) .

ويقول البدوى
" أوصى أبناء هذا الجيل بالرجوع إليه " (13)

================
(1)
فى هذا المعنى مقال لمحمود البدوى نشر فى صحيفة المقطم سنة 1936
(2) صدر العدد الثالث من المجلة فى 1521933
(3) مخطوط بخط يد البدوى لم ينشر
(4) ص . الشرق الأوسط 791984 " حوار مع محمود البدوى"
(5) رقمى 156و157 فى 296و671936
(6) م . الثقافة المصرية مارس 1975" صفحة من حياتى "
(7) م . الثقافة المصرية نوفمبر 1979" ذكريات مطوية "
(8) م . الكواكب 26111985 " حـوار مـع محمـود البـدوى "
(9) ص . الأخبار المصرية 1921986 "نشر الحوار بعد وفاة البدوى "
(10) ص . الشرق الأوسط 791984 حوار مع محمود البدوى "
(11) م . الثقافة المصرية اكتوبر 1977 " ذكرياتى فى الأدب والحياة "
(12) مخطوط بخط اليد
(13) ص . الرياض 7101984 " حوار مع محمود البدوى "
==================================

ص 4 محمود حسن اسماعيل

ذكريات

محمود البدوى ومحمود حسن اسماعيل


فى الأربعينيات من القرن العشرين كان محمود البدوى على صلة بالمحقق العلامة محمود محمد شاكر وكان يزوره فى بيته فى أقصى أطراف ضاحية مصر الجديدة من الناحية الغربية .. وكان بيته نهاية البيوت فى تلك المنطقة .. وأمامه فضاء واسع .. ورمال بيضاء شهباء لاتغفل عنها عين الشمس .

وكان يسكن فى الدور الرابع إذا أغفلنا الأرضى ، وكان يصطحب معه فى الزيارة التى كانت تحدث غالبا مع غروب شمس يوم الجمعة وفى أيام غير متقاربة .. المرحوم الدكتور أحمد عبد المنعم البهى الأستاذ السابق بكلية الشريعة جامعة الأزهر والذى كان سكرتيرا لتحرير جريدة المصرى حتى وهو طالب وكان من أشد الناس اعجابا بالأستاذ شاكر فيما ينشره بالمقتطف والرسالة ، وكانا يجدا عنده " الشاعر محمود حسن إسماعيل .. وكان قليل الحديث سارحا فى تأملاته .."

وفى يناير من عام 1973 رافقه فى بعثة ثقافية إلى روسيا وكان معهما الشاعر صلاح عبد الصبور والأديب حلمى مراد ..

ويقول البدوى " وسافرنا فى شهر ديسمبر وانحصر تفكيرنا .. ونحن نسافر إلى روسيا فى زمهرير البرد والثلج ، وفى درجة حرارة 30 و 40 تحت الصفر .. انحصر تفكيرنا فى شىء واحد .. القهوة .. فكلنا أصحاب أسفار ورحالة ، وسبق أن ذقنا الأمرين من القهوة السوداء فى ربوع أوربا .. وهى القهوة التى لاطعم لها ولا مذاق فى حلوقنا ، واذا اجتمع مع سوء المذاق .. رداءة نوع البن كانت الطامة الكبرى .. وأصبحنا كأننا نشرب العلقم !

وكان المرحوم محمود حسن اسماعيل .. مدمن قهوة مثلى وكذلك صلاح ..ولكنه أخف منا وطأة .. أما حلمى مراد ، فهو شريب شـاى ، ولذلك خرج بمزاجه عن الصحبة .

واتفقنا على أن أحمل معى البن من " الكحكيين " والكنكة والسكر .. ويحمل محمود .. وصـلاح .. الجهاز الكهربى الصغير الذى سنصنع عليه القهوة .

وحملنا هذه الأشياء فعلا وحرصنا على وجودها قبل المعطـف الثقيـل ، والكوفية الصوف ، وغطاء الرأس المضفر ..

وهبطت بنا الطائرة فى موسكو .. والشمس طالعة ، ولكن البرد بكل ثقله كان يجز الرؤوس بضربة حادة وسريعة من العنق العارى كما يجز منجل الصاد .. وإذا كنت ريفيا مثلى ستعرف معنى هذا التعبير !

وأنزلونا فى فندق أوكرانيا .. أجمل وأعرق الفنادق فى المدينة .. وبعد الغداء .. وجلوسنا فى البهو الخارجى للطابق الذى نزلنا فيه .. فكرنا فى القهوة .. وأخرجت من حقيبتى الصغيرة .. الكنكة والبن والسكر .. أخرج محمود حسن اسماعيل الجهاز وكان كل واحد منا ينـزل فى غرفة بحمامها .. ولأن محمود حسن اسماعيل .. كان أكبرنا سنا .. فقد اخترنا أن نشرب القهوة فى غرفته ..

وعمرنا الكنكة .. وأمسكنا بالجهاز وحاولنا وضع الفيشة فى البريزة التى يوضع فيها جهاز الراديو فلم توافق حجمها كانت الفيشة أصغر .

فذهبنا إلى الحمام فكان الأمر كذلك .. فرحنا إلى غرفة صلاح ثم غرفتى .. فإذا بالحال كما هو فالعدد الكهربائية كلها فى حجم واحد فى كل الغرف والحمامات .

واستأنا كثيرا وبلغ بنا الضيق منتهاه .. وفكرنا فى تغيير " الفيشة " ونشترى واحدة أصغر من أى متجر يبيع هذه الأدوات ..

وكان المرافق بعربته لايزال موجودا فى الفندق فخرج معنا إلى الطريق .. ولكنا لم نصل إلى حل ورجعنا آسفين ..
ولكنا لم نيأس .. وبغير القهوة سيشل تفكيرنا تماما .. ويصيبنا الصداع المزمن .

وسرح محمود حسن اسماعيل رحمه الله .. وراح فى الغيبوبة التى تنتابه عندما يأتيه هاجس الشعر .. ثم برقت عيناه واحمرت .. وسألنا :
- معكم كولونيا .. زجاجة كبيرة ..
- معنا ..
- وقطن ..؟
- من الأجزخانة .. هى داخل الفندق ..

وحملنا الكولونيا والقطن إلى الحمام وجهزت الكنكة .. وأنا أستغرب مما سيحدث ولا أفهم شيئا ..

ووقفنا أمام الحوض الصينى الكبير وغمر محمود حسن اسماعيل القطن بالكولونيا .. وأشعل النار فى القطن الموضوع فى الحوض .. ووضع عليه الكنكة ..

وشربنا ثلاثتنا الذ قهوة وأحلاها مذاقا ..
ونظرنا مبهورين ..
قهوة تركية بوش ودسم .. تطيب للشاربين على النار المعطرة ..

وظل الحال كذلك طوال الأيام السبعة فى موسكو .. وقد أشعلنا كثيرا من القطن وأفرغنا الكثير من زجاجات الكولونيا ولكن مزاجنا كان صافيا ..

ومن الغريب أن الحوض الصينى لم يتأثر مطلقا بالنار .. على لمعانه الشديد وبياضه الناصع .

وعندما ذهبنـا إلى ليننغراد كانت جعبتنا من البن والسكر قد فرغت ..

ولكن جارة فنلندية أشفقت على حالنا .. وسقتنا من يدها القهوة التركية الممزوجة بالشهد ."

ويقول البدوى فى موضع آخر من ذكرياته حينما ذهب الوفد إلى تفليس " كنا نرى فى وجوه المسلمين فى تفليس السرور الذى شاهدوه فى أعيننا وقلوبنا .. ولما دخلنا المسجد فوق الربوة التى غطتها الثـلوج .. انزوى محمود حسن اسماعيل فى ركن وتوهجت عيناه .. وعند ئذ أدركت أن هاجسه الشعرى قد هبط وتملكه ".
==============
من واقع مذكرات محمود البدوى التى نشرها فى مجلة الثقافة المصرية بالعدد 78 الصادر فى مارس 1980 وبمجلة عالم القصة فى عددها التاسع الصادر فى يوليو – اغسطس 1982 ومن مقدمة كتاب قصص من روسيا لمحمود البدوى من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى الصادر عن مكتبة مصر 2003 ".
=================================


ص 5 سعيد مرزوق مخرج فيلم زوجتى والكلب

محمود البدوى والفنان سعيد مرزوق
مخرج فيلم " زوجتى والكلب "
بطولة سعاد حسنى ونور الشريف ومحمود مرسى

فى بداية عام1971 رن جرس التليفون فى بيت أديب مصر الكبير محمود البدوى وأخبره المتحدث بأن قصة فيلم " زوجتى والكلب " المعروض فى السينما من اخراج الفنان سعيد مرزوق وبطولة سعاد حسنى ونور الشريف ومحمود مرسى هى قصة " رجل على الطريق " المنشورة فى مجموعتة المسماة " العربة الأخيرة " عام 1948.

***

وأثير الاتهام على صفحات الجرائد والمجلات المصرية وفى ساحات القضاء
ففى صحيفة الأخبار الصادرة فى 10121971 تحت عنوان "المخرج يرد على الاتهام .. ويدافع عن نفسه .. لم أسرق قصة زوجتى والكلب .. واسألوا " عطيل " !

ويقول الخبر

" سعيد مرزوق مخرج فيلم " زوجتى والكلب " يرد على الاتهام الذى وجهه إليه محمود البدوى بأنه أخذ قصة " رجل على الطريق " المنشورة منذ سنوات وأخرجها للسينما باسم " زوجتى والكلب " بعد أن وضع عليها اسمه باعتباره المؤلف .

إن المخرج يرد عن نفسه الاتهام ويقول

أنا لم آخذ فكرة الفيلم من البدوى ، وإنما من عطيل بطل مسرحية شكسبير الشهيرة ، فالفيلم كله يدور حول شكوك زوج فى زوجته ، تتحول إلى جحيم يحطم حياته ، لأنه أولا يعيش بحكم عمله فى فنار بعيدا عن زوجته الصبية الفاتنة ، وثانيا لأن له ماض من المغامرات مع نساء متزوجات .. وها هو الماضى يصبح عبئا ثقيلا على حاضره ، يطارده ، ويجعله يشك فى زوجته ويتوهم أنها تخونه مع شاب مراهق يعمل مساعدا له ، وكان قد أرسله برسالة إلى زوجته .

ويواصل المخرج دفاعه عن نفسه .. ويقول

" بدأت فكرة الفيلم فى ذهنى على أساس أن يكون بطلها رجلا يعمل فى الصحراء بعيدا عن زوجته ، ويتعذب بالشك ، وعندما عرضت الفكرة على المصور السينمائى عبد العزيز فهمى ، اقترح علىّ أن أغير مكان عمل البطل إلى فنار منعزل على شاطىء البحر ، وفعلا ذهبت معه إلى فنار شدوان على شاطىء البحر الأحمر وكان ذلك منذ حوالى عامين ، وهناك أردت أن أعيش الفكرة بنفسى وأن أطابقها بالواقع من خلال الحياة اليومية لهؤلاء الناس الذين يعملون فى الفنار ، وحتى هذه اللحظة كانت فكرتى أن يكون البطل شخصا واحدا تعذب بالشك ، لأن شخصية عطيل كانت فى ذهنى ، ولكن عندما سافرت إلى شدوان ، استرعى انتباهى شاب عزب يستغرق فى أحلامه ، وبعدها قررت أن أجعل للفيلم شخصين رئيسيين : الرجل المتزوج وغريمه الشاب العزب .

وأيضا وجدت رجلا يعمل فى هذا الفنار ومعه رسالة ينتظر أن يبعث بها إلى زوجته مع أحد زملائه عندما يسافر عائدا إلى القاهرة .

كان هذا بالنسبة لى شيئا مثيرا ، فقد كنت أعيش الواقع بتفاصيله كلها ولم أكن أحتاج إلى أكثر من ذلك ، فذهبت إلى الغردقة وأمضيت فيها 4 أيام إنتهيت خلالها من كتابة سيناريو فيلم " زوجتى والكلب " وأحب أن أؤكد أننى لم أتقاض مليما واحدا من مؤسسة السينما باعتبارى مؤلفا لقصة الفيلم ، فأنا لم أكتب قصة ولا أدعى لنفسى أننى كاتب قصة ، بل إن الفكرة التى دارت فى رأسى تحولت على الورق مباشرة إلى سيناريو وحوار .

لماذا يوجه إلىّ الاتهام إذن ، إننى لاألوم الأديب محمود البدوى لأنه وجه لى هذا الاتهام ، فلو كنت مكانه لشعرت بالضيق لأن بعض ملامح قصته قد تلتقى مع بعض ملامح الفيلم ، ولكن ضيقه سوف ينتهى لو قرأ دفاعى وسوف يرى معى أن فكرة الفيلم شىء وقصته شىء آخر ".

وتداولت القضية فى ساحات القضاء

وفى 2971975 ورد خبر فى صحيفة الجمهورية المصرية يقول " القصاص محمود البدوى حكم ابتدائيا لصالحه فى القضية التى أقامها ضد مؤسسة السينما والمخرج سعيد مرزوق الذى زعم لنفسه قصة " زوجتى والكلب " ثبت للمحكمة من تقرير الخبير ومن مشاهدة الفيلم ، أن الرواية المعروضة مأخوذة نصا وروحا بكامل أحداثها من قصة " رجل على الطريق " التى نشرها محمود البدوى فى مجموعته القصصية التى تحمل اسم " العربة الأخيرة " حكم للبدوى بتعويض 1000 جنيه " .

***

ويقول محمود البدوى فى الحوار المنشور بمجلة الكواكب بعددها 1791 الصادر فى 26 نوفمبر 1985 " كنت أتمنى أن يكون هذا الحكم على مؤسسة السينما .. لكن الحكم جاء على الأستاذ " سعيد مرزوق " وحده .. شعرت بالقرف ولم أنفذ الحكم .. والدعوى كانت برقم 70987 لسنة 1972 كلى شمال دائرة 2 محكمة شمال القاهرة الابتدائية والحكم صدر بالجلسة المدنية فى المحكمة فى يوم الاثنين الموافق 1721975 .. وأنا قرفت بمجرد عدم الحكم على المؤسسة وهى المسئولة الأولى مائة فى المائة .. لأنها هى التى صرفت عليها وطلعتها .. فكان الأجدر بها فى ذلك الوقت أن تعيد إلىّ كافة حقوقى المادية والأدبية بمنطق الأخلاق والنزاهة ".
=================================
كيف استوحى محمود البدوى قصة " رجل على الطريق

أثناء عمل البدوى فى مصلحة الموانى والمنائر فى مدينة السويس عام 1934 ، شاهد رجلا كهلا يجلس على حافة القناة فى بور توفيق وبجانبه كلبه .. وهو فى جلسته هذه لايغير مكانه .. ولا نظرته إلى السفن العابرة ..

وحدثت حادثة فى منارة من منائر المصلحة ، إذ تعارك ملاحظان فى تلك المنارة حتى سالت منهما الدماء ، وسافرت الباخرة " عايدة " ( ضربت فى الحرب العالمية الثانية ) لإحضارهما .

وسمع البدوى بالحادثة .. فأخذ ذهنه يعمل بسرعة .. وتذكر صورة الرجل العجوز الذى يشاهده كل صباح وهو ذاهب وراجع من العمل .. وتكونت قصة " رجل على الطريق " ونشرها فى مجموعتة القصصية التى تحمل عنوان " العربة الأخيرة " فى شهر يونيو 1948 .

وقد تناول البدوى فى هذه القصة رجال الفنار المنقطعين عن زوجاتهم وما ينتابهم من ملل وضيق فى شخصياته ، شخصية الزوج الذى ترك زوجته الحسناء منفردة ، وشخصية هذه الزوجة التى تعانى من بعد زوجها عنها والزميل الذى يحمل رسالة إلى زوجة زميله فى المدينة وما ترتب عليه من قيام صراع وشك قاتلين فى نفس الزوج .

وركز البدوى فى قصتة على وجود كلب مع الرجل الذى خان زميله ثم قتله وعاش فى عذاب من الندم وتبكيت الضمير ، وبعد خروجه من السجن قطع ما بينه وبين الناس ولم يعد يطيق إلا حيوانا أليفا وفيا لكى يعيش معه .

=================================

المراجع
· محمود البدوى والقصة القصيرة .. للكاتب على عبد اللطيف .. مكتبة مصر 2001
· ص . الأخبار الصادرة فى 10121971
· ص . الجمهورية الصادرة 2971975
· م. الثقافة .. العدد 49 اكتوبر 1977
· م . الكواكب العدد 1791 فى 26 نوفمبر 1985
· قصة " رجل على الطريق " منشورة فى كتاب العربة الأخيرة .. طباعة مكتبة مصر سنة 1948 وأعيد نشرها فى سلسلة الكتاب الذهبى عام 1961
=================================

قصة
رجل على الطريق


قصة محمود البدوى

اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى فى شركة من شركات الملاحة بالسويس براتب تافه ، كنت أسكن بنصفه ، وأشرب بالنصف الآخر جعة ، ولا أحفل بعد ذلك بشىء فى الوجود ، وكنت أقيم مع أسرة إيطالية تسكن فى منزل صغير على شط القناة فى بور توفيق ، وتعيش عيش الكفاف .

وقد كانت الحياة شاقة على شاب فى مثل سنى ونشاطى فى هذه المدينة الصغيرة التى ليس فيها شىء سوى القناة ، ومنازل الشركة المتناثرة على الشاطىء ، وسكانها جميعا من الأجانب الذين وضعتهم الأقدار العجيبة فى هذا المكان ، ولاصلة تربطهم بالمواطنين ولا مودة ولا إخاء .

على أن ولعى بالمطالعة ، وحبى للهدوء ، خففا مما كنت ألاقيه من وحدة ووحشة فى هذه الضاحية . وكنت أذهب كل مساء إلى السويس لأشرب الجعة فى مشرب صغير ، وأتمشى فى طريق الزيتية .. ثم أعود إلى بور توفيق لأنام .

وكنت أجد على رأس الطريق الموصل لبيتى رجلا غريب الأطوار ، يجلس على الحشائش قرب القناة وبجواره كلب ضخم وزجاجة فارغة ...! وكان الرجل يجلس ينظر دائما إلى ناحية القناة ، ويخط باهتمام فى دفتر أمامه .. ويجلس هكذا معظم النهار ، فإذا غربت الشمس حمل متاعه ومضى ووراءه كلبه واختفى فى الظلام .

وكان موضع السخرية من العابرين فى الطريق .. وكان أكثر الناس سخرية به العمال الذاهبون إلى ورش الميناء .. وما كان الرجل يعبأ بسخريتهم أو يحفل بكلامهم .. كان يمضى فى عمله ولا يجيب .

ولعلى كنت الوحيد الذى يمر به فى الصباح والمساء ولا يسمعه كلمة نابية ، ولذلك كان ينظر إلىّ فى استغراب ودهشة . وكنت أخرج لأتمشى كل أصيل ومعى كتاب .. وأتخذ طريق القناة عادة .. وأجلس هناك على كرسى حجرى أطالع ، والرجل على مقربة منى يكتب فى كراسته ، ودنوت منه ذات مرة ، وجلست إلى جواره فوق العشب ، وحييته فحيانى بهزة من رأسه وهو يبتسم ، ومر مركب فى القناة فانحنى على كراسته وكتب شيئا فى تمهل وعناية .

فسألته :
ـ ماذا تكتب ..؟
فنظر إلىّ بوجه ضاحك وقال :
ـ إننى أتلهى ..

ثم أضاف وقد لمعت عيناه بعض الشىء :
ـ لقد كنت ملاحظ " فنار " فى البحر الأحمر ، وكان هذا هو عملى فى النهار والليل .. أرقب السفن وأدون أسماءها ، وأنا أفعل هذا الآن بحكم العادة ، وأجد فى ذلك لذة تنسينى متاعب الحياة ..

ـ لاشك أن العمل فى المنارة وسط البحر ممتع للغاية ..
ـ جرب وسترى ..

ثم شاعت فى وجهه ذى التجاعيد ابتسامة عريضة

وسألنى :
ـ هل أنت متزوج ..؟
ـ لا ..
ـ إذن فيمكنك أن تركب البحر إلى هناك .. ولا بأس عليك .. كتاب وفونوغراف ، وكل شىء سيمضى على سننه .. أما إذا كنت متزوجا فستعود من هناك نصف مجنون ..!

ـ وهل اعتزلت هذا العمل من مدة ..؟
ـ مدة طويلة جدا يا بنى .. منذ سنين وسنين ..

وتغير صوته وأطرق .. فأدركت أنه تذكر شيئا يؤلمه .. فتحولت بوجهى عنه ، وأخذت أقلب صفحات الكتاب الذى معى حتى أقبل المساء ، فحييته وانصرفت .

***

والتقيت به بعد ذلك كثيرا فى هذا المكان حتى توثقت بيننا مودة صادقة . وكان الرجل مخمورا أبدا ، وما رأيته غير ثمل فى نهار أو ليل ، وكانت زجاجة الخمر معه لاتبارحه قط ، وكان ادراكه الصحيح للحياة قد جعله لايعبأ بشىء مما تواضع عليه الناس ، فهو يسكر وينام فى الطريق .

وما رأيته متبرما بشىء ، أو شاكيا من شىء .

ورآنى مرة فى حانة صغيرة فى مدينة السويس .. أتحدث مع زوجة صاحب الحان .. فلما انصرفت المرأة لعملها جاء وجلس إلى مائدتى ..

وسألنى :
ـ لماذا تسكر فى هذه السن ..؟
ـ لأننى أشعر فى أعماق نفسى بالتعاسة
ـ إن هذا أحسن جواب لسكير ..!
ـ ولماذا النساء ..؟

فصمت ولم أقل شيئا ..
واستطرد هو :
ـ انك تسكر لأنك وحيد .. ولا رفيق ولا أنيس لك فى هذه المدينة الكئيبة ، ومع كل مساوىء الخمر فإنها قربتك منى ولم تجعلك تسخر من ضعفى ، وأنا أشرب على قارعة الطريق فى بور توفيق ، إنك تدرك الضعف الإنسانى لأنك إنسان ..!

ـ إن هذا لايغير من نظرة المجتمع إلى السكير ..
ـ هذا صحيح .. ولكنى أسكر رغم أنفى وكذلك أنت . وهناك شىء فوق إرادة الإنسان يربطنا بهذه الدنان .. وإن تشرب فى ساعة مظلمة من حياتك ثم تصحو .. إن هذا لاشىء .. ولكن النساء .. هذا شىء آخر .. إنك لا تستفيق من خمرهن إلا وأنت ساقط فى الهاوية ..

وجاء له الساقى بكأس فشربها وعض على نواجذه .. ثم أشـعل لفافــة من التبغ ، وأخذ يسرح الطرف فى سماء الحان ..

فسألته وأنا أنظر إلى وجهه وقد غضنته السنون :
ـ لماذا تركت البحر ..؟
ـ إنها الأقدار ..

ثم صمت .. وأمسك بالكأس البللورية الفارغة .. ورفعها إلى عينيه كأنه يقرأ فيها من لوح الغيب .

ثم سألنى :
ـ أركبت البحر ..؟
ـ ذهبت منذ سنتين إلى استامبول ..
ـ أشاهدت منارات فى الطريق ..؟
ـ أجل ..
ـ سأحدثك عن قصة منارة من هذه المنارات ..

ووضع الكأس البللورية على المائدة .. وأشعل لفافة أخرى وأقبل علىّ يتحدث :

ـ كنت أعمل فى منارة بالبحر الأحمر منذ سنين .. وكان معى زميل لى يساعدنى على العمل . أمضيت شهرين فى المنارة وسط البحر .. ولا شىء تراه هناك غير البحر .. وكنا نطالع ونصطاد السمك ، ونسمع الفونوغراف .. وننير المنارة فى الليل للسفن ، ونغنى ونفعل كل شىء لنتلهى . ولكنك فى ساعة من الساعات تحس كأن شيئا يثور ويضطرب فى أعماق نفسك ، فتكاد تمزق الكتاب وتحطم الفونوغراف .. وتشعر بسأم .. وتضيق ذرعا بكل شىء .. وتحس بالاختناق .. وتنظر ولا ترى حولك غير البحر ، وبينك وبين الأرض سفر أيام ، فى هذه الساعات كنت أجلس على سلم المنارة وأدلى بساقى فى الماء .. وأحلم بعرائس البحر التى قرأت عنها فى الأساطير .. وأتصور أن واحدة منهن ستطلع وتجىء إلىّ .. وتمر سفينة من بعيد ، وأنوارها ترقص على الموج ، وأتصور أننى أسمع ضحكات نساء .. ورقص نساء .. وأرى بعين الخيال واحدة منهن تتجرد من ثيابها وتتهيأ للنوم ، فيأخذنى السعار .. وأظل أفكر وأحلم فى المرأة .. ولا شىء غير المرأة .. إنها تأخذ عليك مسالك تفكيرك ، وتشغل حواسك ، فإذا رأيت شيئا أبيض يلوح فى سفينة من بعيد تصورته ساق امرأة .. وإذا أبصرت شيئا ينثنى على سطح مركب تصورته امرأة .. إنك تراها فى كل شىء ولا تراها ..

وكنت أنا وزميلى أحسن صديقين .. كنا نعمل فى صفاء ووئام .. وكان الطعام لابأس به ، ووسائل التسلية متوفرة .. أما إذا جن الليل وثارت الغريزة فقد انقلب كل شىء إلى جحيم .

وكان صاحبى متزوجا وكنت أعزب ، وكان يحب زوجته ويحدثنى كثيرا عنها ..

ومضت شهور ، واقترب موعد عودتى إلى السويس لأستريح فى الأجازة المقررة لأمثالنا .

وجاءت الباخرة التى ستقلنى إلى السويس ، وأعطانى صاحبى رسالة إلى زوجته .

***

وأمضيت أياما فى السويس ، والرسالة موضوعة فى جيبى حتى كدت أنساها .. وفى أصيل يوم ذكرتها ، فاتجهت إلى بيت صاحبى وكان فى أقصى المدينة .. وتقدمت فى الشارع الضيق ، وشمس الأصيل تضرب رؤوس المنازل البيضاء بأنوارها الساطعة ، وكل شىء يسبح فى الضوء الباهر .. ووقفت أمام البيت ، واجتزت العتبة ، ورأيت فتاة فى مقتبل العمر تمسح الدرج وقد شمرت عن ساقيها .. ولما رأتنى توقفت عن العمل ، ونظرت إلىّ فى سكون فاقتربت منها وسألتها وأنا مفتون بجمالها :

ـ أهذا منزل عبد السلام أفندى ..؟
ـ أجل ..
ـ أريد أن أقابل زوجته ..
ـ أنا زوجته ..

فابتسمت وظهر على وجهى الارتباك ، فما كنت أتوقع أن تكون زوجة صاحبى صغيرة وجميلة هكذا ..

رأيت أمامى فتاة فوق العشرين بقليل ، خمرية اللون سوداء العينين .. جذابة الملامح إلى حد الفتنة .

وعرفتها بنفسى وسلمتها الرسالة .. فأخذتها فى لهفة ثم ردتها إلىّ وهى تضحك وقالت بصوت ناعم :

ـ أرجو أن تقرأها لى فأنا لا أعرف القراءة
ـ وقرأتها لها فأشرق وجهها وزاد سرورها ..

ثم طوت الرسالة وقالت وهى تشير إلى الداخل :
ـ تفضل ..

ودخلت وجاءتنى بعد قليل بكوب من الليمون

وأخذت أحدثها عن البحر ، وعرائس البحر .. حتى أقبل الليل فحييتها وانصرفت وأنا جذلان طروب .

***

وبعد أيام التقيت بها عرضا فى السوق ، وكانت معها سيدة وفتاة أصغر منها قليلا .

وسلمت علىّ فى بشاشة وقالت :
ـ لماذا لم تزرنا ..؟
ـ سأزوركم طبعا ، قبل عودتى إلى المنارة ..
ـ وقبل ذلك ..؟
ـ وقبل ذلك .. !
ـ سلم على أمى وأختى .. إنهما قادمتان من بور سعيد لزيارتى .. وقد حدثتهما عنك ..!

وسلمت على أمها وأختها ، ومشيت معهن إلى البيت ، وبقيت معهن حتى ساعة الغداء ..

***

وذهبت إلى الإسماعيلية ، وأمضيت فيها أياما .. ورجعت إلى السويس ، وفى أصيل يوم مررت بمنزل زينب زوجة صاحبى لأخبرها بموعد عودتى إلى المنارة حتى أعطيها فرصة لتعد بعض المأكولات لزوجها ، ووجدتها فى البيت وحدها ، كانت أمها وأختها قد سافرتا .. وشعرت وأنا جالس فى الحجرة بالسرور والارتياح .. وهذه مشاعر لم أستطع تعليلها ..

وكانت زينب تلبس رداء أزرق بسيط التفصيل .. وقد صففت شعرها وعقدته جدائل فوق ظهرها ، وكانت تعصب رأسها بمنديل أزرق كذلك ، وفى عينيها كحل خفيف ، وعلى خدها الأيمن حسنة . ولما جاءت إلىّ بفنجان من القهوة ، ومددت يدى لأتناوله من يدها ، شممت من جسمها روائح الطيب ، فتنبهت حواسى ، ونظرت إليها وكأننى أراها أمامى لأول مرة ..

ولأول مرة أشعر بقلبى يدق وأنا معها فى غرفة واحدة والعرق قد أخذ يتصبب على جبينى ..!

ومالت الشمس إلى الغروب ، ونهضت لأنصرف فقالت وهى تنظر إلىّ :
ـ لماذا أنت مستعجل ..؟
ـ الليل قد أقبل ..
ـ إن هذا أدعى لبقائك لأننى وحدى فى البيت ، فانتظر حتى تأتى خالتى أم اسماعيل ..

وبقيت .. وظللنا نتحدث .. حتى مضت فترة من الليل .

ووجدت أمامى أنا الشاب القوى الذى يعانى مرارة الحرمان امرأة ناضجة محرومة مثلى ..

كان فى نظراتها تكسر ولين

وكان جسمها يروح ويجىء أمامى وهى فى أحسن مجاليها ، فأخذت أنظر إليها ، وأنا مستغرق فيها بحواسى ومشاعرى جميعا ، ونسيت أنها امرأة صاحبى ، نسيت هذا وذكرت أننى وحيد فى قلب الليل مع امرأة أشتهيها من كل قلبى .

ودون أن ندرى ما حدث كانت بين ذراعى وكنت أرتوى منها .

وغرقنا فى النشوة فلم نحفل بأحد .

وأصبحت أقابلها كل يوم ..

***

ولما حان موعد عودتى إلى المنارة حملتنى هدية لزوجها ، وودعتها وفى قلبى جمرات من نار .

وذهبت إلى المنارة وأعطيت الهدية لصاحبى وسألنى عنها ، وكان يتلهف على كل كلمة يسمعها منى .. كان يحبها إلى درجة العبادة .. سألنى عن صحتها وأحوالها ، وأخذت أجيبه على مئات الأسئلة التى أمطرنى بها ، وكان من فرط ولهه يود لو يقبل يدى لأنها لمست يدها ..!

وحل موعد عودته فتركنى ورحل ..

وكنت فى خلال ذلك أعانى عذاب السعير ، وأتصورها بين ذراعيه فأكاد أجن ..

وانتهت أجازته وعاد .. ورأيته يصعد سلم المنارة بعد غيبة ثلاثة شهور .. وكدت أنكره .. فقد تغير .. إذ ظهر على وجهه الشحوب والذبول وحيانى فى فتور .. ووضع متاعه فى جانب من المنارة .. وصعد إلى البرج .. وهو صامت ..

وجلست بعد هذا أفكر وأسائل نفسى .. ما علة تغيره ؟ هل عرف ..؟ هل علم بكل شىء ..؟ ما أشد جنون المحبين ! إنهم يتصورون أن الناس لاتعرف عنهم شيئا .. وسيرتهم تدور على السنة الناس . إن الحب يعميهم عن ادراك الحقائق .

وكان عليه أن يسهر فى البرج ، وعلىّ أن أنام لأحل محله بعد ذلك .. واستلقيت على الفراش ولكنى لم أنم .. كانت نظراته إلىّ ترعبنى .. وكنت أخافه .. كان أشد منى قوة .. فأغمضت عينى نصف إغماضة وسمعته يهبط السلم .. ويدور فى الغرفة الصغيرة حتى وقف على فراشى ، وتظاهر بأنه يبحث عن شىء وعاد إلى البرج ..

وبعد ساعة سمعته يهبط السلم مرة أخرى .. ورأيته يتجه نحوى .. وكانت فى يده قطعة من الحديد .. إنه يود قتلى .. ودون أن نتبادل كلمة واحدة تشابكنا فى عراك دموى ، وظللنا نقتتل حتى لم تبق فينا قدرة على الحركة ، ورحت فى غيبوبة طويلة .. ولما فتحت عينى ونظرت إليه كان الدم يلطخ وجهه ، وكان صدغه قد تهشم من ضربة قاتلة .. فأدركت هول ما حدث وأغمضت عينى ..

***

نمت على الأرض وهو بجوارى فاقد الحراك .. ونظرت إلى السماء فوقى ، وإلى البحر الصاخب من حولى ، وإلى الظلام الذى تضل فيه الأبصار ، واستعرضت فى ذهنى صور حياتى إلى أن التقيت بصاحبى هذا .. وجمعتنى الأقدار معه فى عمل واحد .. وامرأة واحدة ..!

وبكيت وماتت فى نفسى كل عواطف البغضاء .. وودت لو أفتديه بحياتى .. وأخذنى بعد قليل ما يشبه الدوار .. ثم فتحت عينى ، وتصورت أن الجثة تتحرك وأنها اقتربت منى .. وكنت مشلولا ولا أستطيع الحركة .. فتملكنى غيظ مستعر ، وجعلت أصر بأسنانى ، وأهذى كالمجنون ، وأصرخ بأعلى صوتى .. ولكن موج البحر كان أعلى من صوتى .

كان يزمجر وكنت أصرخ فيختلط الصوتان معا ويذهبان أباديد ..

وظللت ساعة كاملة وأنا فاتح عينى ومعلق بصرى بالجثة .. وقد عجزت عن كل حركة .. وخيل إلىّ أنها انتفخت .. وأن وجهه يزحف عليه النمل .. والهوام ! وازددت كراهية لها ونفورا .. وخطر لى خاطر لماذا لا أدفعها إلى البحر .. وأتخلص من هذا العذاب ..

وزحفت بجسمى كما يزحف الثعبان .. وحاولت أن أدفع صاحبى فلم أستطع .. فتمددت فى مكانى وبصرى إلى النجوم .. إن الليل مرتع للهواجس .. فإذا طلعت شمس النهار ذهبت هذه الخواطر المرعبة أباديد .. ولكن متى يطلع الصبح ..؟

لقد كنت أرتعش وأصر بأسنانى ، وأشعر بجفاف حلقى .. ولما صحت بأعلى صوتى كان صوتى قد انقطع .. فأغمضت عينى وأخذت أبكى كالأطفال .. وكنت كلما أغمضت عينى ازداد سمعى حدة .. وخيل إلىّ أننى أسمع صياح مردة فى برج المنارة وعواء ذئاب .. ووضعت أصابعى فى أذنى .. ولكن هيهات كان الصوت قويا ، وكان يجلجل فى البرج .

وارتعشت .. وتصبب العرق وأخذنى الدوار .

***

ولما فتحت عينى ، كان النور قد غمر الكون .. وظللت طول النهار فى مكانى ، وأنا أتلوى من الألم والعذاب . . وكلما أدرت وجهى عن رفيقى .. عدت برغمى أنظر اليه وأرتعش .. حتى طار صوابى .

ومرت مركب فى المساء .. ولاحظت انطفاء المنارة .. فاقتربت وحملتنا .. هو ميت وأنا أشبه بالموتى .

وسجنت .. وخرجت من السجن .. وذهبت إلى كل مكان لأتلهى وأنسى .. ولكن صورة البحر بأمواجه وأشباحه والمنارة المنطفئة .. والزميل الراقد بجوارى لاتبارح مخيلتى أبدا ..

إننى معلق هناك بخيط لايرى ..
=================================
نشرت القصة لأول مرة بمجموعة محمود البدوى القصصية " العربة الأخيرة " طباعة مكتبة مصر 1948
=================================